تشهد تركيا الأحد المقبل انتخابات تاريخية تختلف كثيرًا عن سابقاتها. الرئيس الجديد الذي سيختاره الشعب التركي في هذه الانتخابات، سوف يقود الجمهورية التركية إلى مئويتها الثانية. وستحتفل الجمهورية في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بعامها المئة في ظل قيادة الرئيس الجديد. ولا شك أن هذه الانتخابات ستحدد خريطة طريق البلاد في القرن الثاني. ومنذ نحو شهر، تدور منافسة حامية الوطيس بين مرشح «تحالف الشعب» الرئيس الحالي رجب طيب اردوغان، ومرشح «تحالف الأمة» المعارض كمال كليجدار أوغلو. وقد تطايرت في هذا الإطار استطلاعات الرأي المضللة والاتهامات المتبادلة بين أنصار المرشحين على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. وطغى السباق الرئاسي بين اردوغان وكليجدار أوغلو على الانتخابات التشريعية التي ستجري في وقت واحد.
حسناً، ما هو المشهد السائد في استطلاعات الرأي الأخيرة بالنسبة إلى «تحالف الأمة» و«تحالف الشعب»؟ تظهر نصف شركات الاستطلاع تقدم اردوغان على منافسه، بينما يُظهر النصف الآخر أن كليجدار أوغلو هو المتقدم. وهناك عدد قليل فقط من شركات الاستطلاع، يشير إلى أن الانتخابات سوف تحسم في الجولة الثانية وليس الأولى. وحسب استطلاع أجرته مؤخرًا شركة «Argetus» التي كانت نتائجها مطابقة تمامًا لما صدر في الانتخابات الأخيرة، احتل اردوغان المركز الأول بنسبة 50.6 في المئة، وجاء كليجدار أوغلو في المركز الثاني بنسبة 46.1 في المئة، وسنان أوغان في المركز الثالث بنسبة 2.1 في المئة.
اضطر المرشح الرابع للانتخابات الرئاسية، زعيم حزب «البلد» محرم اينجة، لإعلان انسحابه من السباق يوم الخميس الماضي، إثر حملة ابتزاز كبيرة مورست ضده بما يخل بأجواء المنافسات الديمقراطية. لم تكن هذه الحملة حادثة عادية يمكن التغاضي عنها، حيث وصفها اينجة صراحة بأنها «افتراءات غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية» ولمح إلى أن الجهة التي تقف وراء الحملة هي «حزب الشعب الجمهوري» و«تحالف الأمة» مؤكدًا أنه انسحب «حتى لا تبقى لديهم حجج وأعذار وإلا فإنهم عندما يخسرون الانتخابات سوف يحملوننا المسؤولية كلها صباح اليوم التالي». كان الجميع يعلم بأن انتخابات 2023 ستكون صعبة للغاية لاسيما بعد تشكيل تحالف يضم 6 أحزاب معارضة قبل نحو عام ونصف. وبدأت سلسلة من التطورات المتسارعة في الفترة الأخيرة عقب فرض زعيم حزب الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو بصفة مرشح للمعارضة في الانتخابات الرئاسية وسرعان ما تحولت إلى تصرفات غير طبيعية خارجة عن نطاق التنافس الديمقراطي.
أصوات الناخبين المترددين والشباب
تجمع الأطراف كلها على أن «نتيجة هذه الانتخابات سوف تحددها أصوات الناخبين الشباب والمترددين» فهناك نحو 6.5 ملايين شاب سيدلون بأصواتهم لأول مرة يوم الأحد. وتقدر نسبة الشريحة المترددة حاليًا بنحو 6 في المئة، وبالتالي فإن مجموع هذه الأصوات يكفي لحسم الانتخابات. وحرص «تحالف الشعب» و«تحالف الأمة» على إطلاق مختلف الوعود لهاتين الفئتين من الناخبين. وسنرى من هو سعيد الحظ الذي سيحصل على أصواتهما في 14 أيار/مايو.
لم تكن المعارضة التركية أبدا قريبة إلى هذا الحد من هزيمة اردوغان في أي انتخابات برلمانية أو رئاسية سابقة منذ نحو 20 عامًا. ويلاحظ أن اردوغان استعاد شعبيته في الأيام الأخيرة وبدأ يحرز فارقًا كبيرًا حسب استطلاعات الرأي مقابل تراجع أصوات كليجدار أوغلو الذي خسر جميع المواجهات التي خاضها أمام الرئيس الحالي منذ 10 أعوام. أمّا حزب العدالة والتنمية، فإنه لا يزال يحتفظ بالمركز الأول رغم حالة الإرهاق الناجمة عن استمراره في السلطة منذ 21 عامًا، ورغم الأزمة الاقتصادية ومحاولة انقلاب 15 تموز/يوليو 2016 والزلزال المدمر الذي طالت أضراره 11 ولاية تركية في 6 شباط/فبراير الماضي، وتقدر أصواته حاليًا بنحو 40 في المئة. وتعجز 6 أحزاب مجتمعة تحت سقف «تحالف الأمة» المعارض من التفوق على حزب العدالة والتنمية، لذلك يرى الخبراء السياسيون أن تركيا لا تعاني من مشكلة حكومة وإنما مشكلة معارضة.
تنافس لكسب أصوات القوميين
تركز الحملة الرئيسية للانتخابات الآن على «القومية» التي بدأت تتصاعد في العالم كله منذ عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (2017 – 2021) وبالطبع تشكل أهمية كبيرة في تركيا التي تخوض حربًا واسعة ضد الإرهاب منذ سنوات. «من هو القومي الحقيقي؟» سؤال يتصدر المشهد في الفترة الأخيرة في محاولة من قبل المرشحين للرئاسة لكسب أصوات الناخبين القوميين، سواء في الجولة الأولى أو الثانية. وهناك توقعات بأن شريحة من القاعدة الشعبية القومية لحزبي الشعب الجمهوري والجيد، سوف تفاجئ الجميع من خلال التصويت لصالح الرئيس اردوغان، وهذا سيساهم في زيادة الفارق أكثر. وسادت مؤخرًا قناعة لدى الناخب التركي بأن كليجدار أوغلو موال للغرب ولا يتمتع بميزات قومية، وخاصة عقب الحملة التي شنتها وسائل الإعلام الغربية في الأيام الأخيرة ضد اردوغان، ومطالبتها برحيله.
أجبرت هذه التطورات كليجدار أوغلو على استخدام جميع الأدوات الأيديولوجية المتاحة لديه في الأسابيع الأخيرة. فتارة يميل إلى اليساريين وتارة إلى القوميين والمتدينين والليبراليين والغربيين وغيرهم لأنه لا يكترث إطلاقًا للحفاظ على نسق معين في حياته السياسية. يقول كليجدار أوغلو في بعض الأحيان إن «تحالف الأمة» يجتمع على «المبادئ العالمية للديمقراطية الليبرالية» ويتعهد بقبول شروط الاتحاد الأوروبي ليتظاهر بأنه ميال نحو الغرب. وفي أحيان أخرى، يلجأ إلى لغة اليساريين ويستخدم الخطاب المناهض للإمبريالية. وعاد اليوم للتركيز على القومية المستمدة من مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك. فقد نشر قبل أيام مقطع فيديو بعنوان «لا غرب ولا شرق، هذا طريق الترك» في محاولة لاحتواء الانتقادات التي تعرض لها بشأن موالاته للغرب. وقال في المقطع إنه سيحافظ على مصالح الدولة التركية أينما كانت. كما أنه بدأ باستخدام ورقة اللاجئين السوريين في تركيا للتأكيد على قوميته، وتعهد في الفترة الأخيرة بترحيلهم. ربما يؤثر هذا الخطاب قليلًا على أنصار سنان أوغان، لكن خيارات كليجدار أوغلو صعبة فيما يخص موقفه من «الوطن والعلم».
في جميع الأحوال؛ ما سيحدث في تركيا خلال هذه الانتخابات أبعد بكثير من السباق الانتخابي التقليدي. من المؤكد أن نتيجة الانتخابات ستحدد مصير تركيا والمنطقة على مدار 100 عام.